عن الظلم والحلم.. وأشياء أخرى


(1)
25 ديسمبر 2015
الناس لم يناموا بعد، أعينهم مستيقظة، لا أدري إن كانت قلوبهم كذلك أم لا؟ الساعة مازالت الحادية عشر مساءً أو أقل.

كنت على كوبري المشاه أمام مترو جامعة القاهرة، من أكثر الأماكن تكدسا في محطات المترو، وأكثرها انتشارًا لكاميرات المراقبة، الكاميرات أيضًا معلقة على أبواب جامعة القاهرة.. على بعد أمتار يوجد قسم بولاق الدكرور، وأسفل كوبري المشاه اصطفت سيارات الميكروباص المؤدية إلى فيصل والهرم، وسائقي الميكروباص يتسابقون على اصطياد الزبائن.

أعلى السلم الذي أمر به يوميًا يقف شابًا عشريني، لا أبالي به، ولكنه كان ينتظرني، عندما وضعت قدمي على السلم وسبقته بخطوة واحدة وضع يده على كتفي ولفّها حول عنقي محاولًا دفعي لأسفل، لم ينطق إلا بجملة واحدة "تعالى يا حبيبي".. لا أظن أنني حبيبه بالفعل !
على بعد متر واحد ظهر شخص آخر قادم من الأسفل مسرعًا يرتدي جلباب قصير وبنطال جينز يرتديه أسفل الجلباب، وعلى رأسه عمامة بيضاء، شاربه كث غليظ، وفي ثوانٍ معدودة أشهر "بندقية خرطوش بماسورتين" كانت أسفل جلبابه، شدّ الأجزاء أمامي، وحاول وضع البندقية في بطني، ولكني لم أعطه فرصة ليضرب، لا أعرف كيف تملكت على البندقية سريعًا، مسكتها بيدي اليمنى وجعلت فوه البندقية خلفي، ونويت ألّا أتركها مهما حدث، أثناء ذلك أشهر الشاب العشريني سلاحًا حادًا، ربما مطواة، قطع وترًا في يدي اليمنى، وقطع قطعًا كبيرًا في أسفل كف اليد، لم أشعر بذلك، لم أفكر سوى في البندقية.
الناس حولنا كأنهم يشاهدون فيلمًا ممتعًا، إنه ممتع بالفعل، على الأقل مجاني وحصري !

تمادى حامل المطواة في طعناته، طعنة في الظهر أصابت الرئة، وطعنة بجوار القلب، طعنة في منتصف الفخذ اليسرى لمحاولة قطع الشرايين، طعنة صغيرة في نفس الفخذ لكن أقل خطورة، طعنة أعلى الفخذ اليمنى، وبعض الخدوش التي لا أتذكرها.
لم أشعر بكل تلك الطعنات حينها، لكني فجأة سقطت على الأرض وشعرت بالدماء حولي، حاولت أن أصرخ ولكن صوتي أعلن انسحابه من حنجرتي، وحتى لو لم يعلن انسحابه، فلما أصرخ والناس حولي؟ شعرت بشللٍ مؤقت، نظر لي حامل البندقية وصوّب البندقية نحوي، لكنه لم يطلق النار، ربما خشي ممن لا خشية منهم من المحتشدين من الناس، أو ربما ظن أن روحي قد صعدت إلى بارئها، فرّ حامل البندقية وصاحبه، فصاح أحد الناس "ركبوا عربية ملاكي ولاد الكلب، حسبي الله ونعم الوكيل".. حاولت أن أبتسم على صيحته التي تشعرك بأنه تفاجأ، فلم أستطع!
احتشد الناس حولي ينتظرون موتي ولم يجرؤ أحدهم على الاقتراب مني، خوفًا من أن تتسخ ملابسهم بدمائي، أو لأسباب أمنية، حتى جاء بعض الشباب من منطقة بولاق الدكرور ونقلوني بسرعة غريبة إلى مستشفى بولاق.
(2)
كانت لدي رغبة في أن أفلت من تلك الأيادي التي قررت أن تسعفني خوفًا منهم وشكًا فيهم ولكني لم أستطع، لم أستطع سوى أن أتذكر أمي وأتخيلها تبكي على ابنها الذي قُتل أمام الناس بعد خروجه من المعتقل بأيام معدودة، ومحبوبتي التي انتظرتني في أثناء اعتقالي ومازالت تنتظر!
(3)
دماؤنا رخيصة، حياتنا تتوقف على توقيع، من أسعفوني رفضوا التوقيع خوفًا من المساءلة القانونية، لكنهم للأمانة فعلوا المستحيل من أجل إسعافي، أحدهم كان يرتدي رداءً أبيض، تحول إلى اللون الأحمر بسبب دمائي، انتظر الأطباء أخي كي يوقع على ورقة ما، لو أن أخي لم يأتِ سريعًا لما كنت أكتب ما أكتبه لكم الآن، بالتأكيد هناك من ماتوا في مثل موقفي لأنهم مقطوعين من شجرة، أو لأن أهاليهم يقطنون في محافظات بعيدة، أو لأن أحدًا لم يتصل بذويهم، حياتنا رخيصة جدًا. فنحن لسنا ضباط شرطة، ولسنا قضاة، ولسنا وكلاء نيابة، ولسنا بالطبع جنرالات !

(4)
رأيت دموعه تتساقط، يحاول أن يمنعها فلا يقدر، كان ذلك بعدما أجرى لي الأطباء العملية الأولى ووضعوا خراطيمًا غريبة في جسدي، دماء تخرج من جسدي ويدخل بدلًا منها محلول الملح، مسكنات تدخل في عروقي، وخرطوم ضخم يا للعجب وضعوه داخل الجسد بجوار القلب وكأني مولود به، خرطوم مؤلم لا يُحتمل، كل حركة طفيفة كانت تؤلمني كطعنة خنجر، سمعت أحد الأطباء يقول لأخي لو توقف هذا الخرطوم عن سحب الدماء أبلغني كي لا تتوقف حياته.
أنظر للشخص الذي يبكي مرة ثانية، أظن أنني أحلم، أحاول أن أتذكره، نعته أحدهم بـ "طاهر".. إذ أنه الدكتور "طاهر مختار"، عضو لجنة الحقوق والحريات بنقابة الأطباء، ومن مؤسسي حملة مقاطعة إسرائيل، والمسؤول عن حملة تطالب بحق العلاج للمحتجزين في السجون المصرية، تقابلنا مرة واحدة في مركز النديم، أثناء تضامننا مع "مها مكاوي" التي كانت مضربة عن الطعام بعد إخفاء زوجها "أشرف شحاتة" قسريًا لمدة عامين، لا أعلم لما يبكي؟ لسنا أصدقاء لتلك الدرجة، في الحقيقة لم يبكِ فقط ولكنه فعل المستحيل من أجلي، سعى مع دكتورة عايدة سيف الدولة ودكتور أحمد سالم لنقلي لمستشفى أخرى، وكأن  طاهر قد نزل من السماء من أجل مهمة واحدة، وهي أن أبقى حيًا، ذهب معي إلى مستشفى أحمد ماهر، رأيته في كل مكان حتى في سيارة الإسعاف!

هناك اكتشفوا أن وترًا قد قُطع في يدي لم تلحظه مستشفى بولاق، فأجرى الأطباء الشباب عملية جراحية أخرى، كانوا يعملون بضمير لم أره في المستشفيات الحكومية من قبل، معظمهم رفاق طاهر، مخلصون مثله، لم يتركني طاهر يومًا واحدًا ونصحني بترك المستشفى سريعًا خوفًا على رفاقي القادمون لزيارتي من معاتيه الأمن، بعدما عدت إلى بيتي علمت أن طاهر لم يفعل هذا معي فقط، إنه لم يسمع عن مخلوق يحتاج إلى مساعدة وتخلى عنه، يفعل هذا فقط من أجل الحفاظ على إنسانيته ومبادئه، اعتقلوا طاهر بتهمة المشاركة في ثورة 25 يناير، أراك تتعجب من التهمة أو تظنها مبالغة ولا أرى في تعجبك سببًا، فالنظام الحالي هو عدو الثورة الأول. حتى نظام مبارك لم يرتكب مثل جرائمه.
(5)
هذه العلبة لقضاء الحاجة!
قال الطبيب هذه الجملة وغادر، نظرت إلى العلبة بصعوبة، تذكرت زنزانة التأديب، تلك الزنزانة الضيقة الخالية من كل شيء عدا علبة بلاستيك لقضاء الحاجة، لقد دخلتها 3 مرات، شعرت للحظة ما بقهر شديد، تذكرت المظاليم ممن تركتهم خلف الجدران، وممن يقضون حاجتهم في علبة بلاستيك، شعرت بالقهر أيضًا لأنني قد كُتب علي قضاء الحاجة بعلبة بلاستيك في المعتقل وخارج المعتقل.
أصرّ "محمد نبيل" على أن أدخل دورة المياه ولم يُبالِ من الدخول معي كأنه أب وأنا ابنه العاجز عن الحركة، نبيل أيضًا بكى بشدة، ودمعه بلل يدي الممتلئة بالدماء، كان يتوعد بأنه لن يترك حقي، لكنهم اعتقلوه بعدها بيومين من منزله، بتهمة تنظيم مظاهرة مكونة من 9 أشخاص بالدقي، لم يشارك بها نبيل، ولكنهم يريدون اعتقاله لأنه يزعجهم، اعتقلوا معه أيمن عبد المجيد، وشريف الروبي، ومحمود هشام، فالتظاهر جريمة يُعاقَب عليها الشعب المصري بأكمله لأنه أسقط نظام مبارك، حتى أن الأمن اخترع تنظيمًا اسمه "حركة شباب 25 يناير"، واعتقل الصحفي محمود السقا والناشط شريف دياب بتهمة الانتماء للحركة غير الموجودة أصلًا! إنهم يحاربون كل كائن قادر على التفكير، فالتفكير يقتضي أن نعلم أن من يحكموننا لا يصلحون لقيادة وحدة محلية، وهذا خطر على بقائهم !

(6)
أفتح عيني بصعوبة، لأرى عينين قد قُنصت من أجل حريتنا، إحداهما قُنصت في جمعة الغضب والأخرى في شارع عيون الحرية، إنه الدكتور أحمد حرارة، مازال مؤمنًا بقضيته، مهتمًا بغيره، أخجل من نفسي عندما يحاول التخفيف عني، من يخفف عن من يا صديقي؟!
تمسح وجهي الغارق في العرق رغم برد الشتاء، تداوي بعض جروحي،إنها مها مكاوي، زوجة المحامي أشرف شحاتة، المختفي قسريًا منذ أكثر من عامين!
في زاوية أخرى منى سيف والدكتورة ليلى، وقصة هذه العائلة معلومة للجميع، أب قتله الحزن على ولديه المعتقلين، وابن يتم اعتقاله بشكل مستمر وفي ظل أنظمة مختلفة جميعها مدمنة للقمع!
هناك من يخشى عليّ من وكيل النيابة ومن مخبري الداخلية‘ إنها الدكتورة عايدة سيف الدولة، المهتمة بحقوق الإنسان، ومؤسسة مركز النديم لعلاج وتأهيل ضحايا التعذيب والعنف، لا تريد أن تتركني وحدي أثناء التحقيق، تأبى أن تتركني إلا في حضور محامٍ. وجودها في حياة أي شخص تعرض للظلم مهم للغاية.
يقف بجواري رفيقي "أحمد مصطفى" الذي قضى في السجن أكثر من عام بعيدًا عن ابنه وزوجته، والذي سخّر نفسه لخدمتي وخدمة أبي وأمي أثناء فترة مرضي، يذكرني دائمًا بصديقي الراحل "أحمد المصري" في "جدعنته" المصري قتلته الداخلية برصاصها، وفي عزائه اعتقلوا رفاقنا وحكموا عليهم بالمؤبد بعدما اتهموهم بقطع الطريق، لا تتعجب، إنه قضائنا الشامخ. إنه ناجي شحاتة!
زيزو عبده ينظم دخول وخروج الناس من أجل راحتي، وزيزو اعتقل مرات عديدة إحداها في سجن العقرب، ممدوح جمال فقد من عمره الكثير بين جدران السجون يهتم بأدق التفاصيل من أجل أن أستريح.. عمر مرسي أحد مصابي الثورة واعتقل مرات عديدة لا يترك أحدًا إلا سانده.

مصطفى ماهر، شقيق المعتقل أحمد ماهر، يضحك كعادته محاولًا تلطيف الأجواء. أحمد نبيل مطرب قابلته في سجن أبو زعبل، جاء ليغني أغنية أعشقها "يا مصر هانت وبانت كلها كام يوم".
والدة المعتقل رامي السيد تطمئن على صحتي وتسلمني رسالة من ابنها رامي، أم الشهيد "شهاب" لم تنساني أبدًا لأنني دافعت عن ابنها يومًا ما.
والد الشهيد جابر صلاح يتصل مرات عديدة، وأم الشهيد خالد الرشيدي تعتذر لعدم قدرتها على المجيء لزيارتي.

من في تلك الغرفة اللعينة لم يتعرض للإيذاء والظلم؟ ومن في تلك الغرفة يمكنه التخلي عن حلمه في العدل والحرية بعد كل ما تعرّض له؟ّ!

حلمنا باقِ، وثورتكم المضادة زائلة.

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة